[ هذه المادة هي جزء من ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين ستقوم "جدلية" بنشره على مدار الأسبوعين القادمين.]
لم تكن عائلتي من الذين هُجِّروا عام النكبة، فأمي وأبي من عائلتين نصراويّتين، والناصرة لم تُهجّر يوم النكبة. لم أعش حالة اللجوء بنفسي ولم أسمع عنها من عائلتي. لكن عشت النكبة بتفاصيلها. حيث كانت إسرائيل قد فرضت على من تبقى من فلسطينيين داخل ما أسمته حدودها حكماً عسكرياً استمر منذ عام النّكبة لغاية عام 1966ً. وبعد هذا العام أُلغي الحكم العسكري رسمياً لكن ممارساته من قمع وتقييد حريات وملاحقات سياسية ومحاولة تجهيل للفلسطينيين ومحاولة خلق وعي زائف بالانتماء لهذه الدولة، استمرت. ورغم محاولتها هذه لم تنجح بخلق فلسطيني مشوهة الهوية. لكنها نجحت بالتضييق علينا، وما زالت. ونجحت بمنع وقطع تواصلنا عن امتدادنا الطبيعي مع عالمنا العربي، أي امتدادنا الجغرافي والثقافي والسياسي والاجتماعي القومي بكل معانيه. وصارت أقرب مدينة إلينا كبيروت أبعدها عنّا وتم تعريف العالم العربي بالعدو (وفق القانون الإسرائيلي)، إضافة إلى أن العالم العربي لفترة طويلة تعامل معنا نحن فلسطينيي 48 الباقيين على أراضينا وكأننا جزء من إسرائيل، دون فهم طبيعة حياتنا ودون فهم أو حتى أحيانا تقدير لأهميّة بقاء الفلسطيني على أرضه رغم فرض الهوية الزائفة عليه بالقوة.
زرعت إسرائيل جواسيسها في المدارس العربية التي أُقرَّ بقرار رسميّ أن تكون منفصلة عن المدارس اليهودية لكن تابعة للدولة ومسيطر عليها من قبل أجهزتها. فعملت وما زالت على السيطرة على برامج التعليم -التي أسميها برامج التجهيل- وقامت وزارة التربية والتعليم -التي أسميها وزارة اللا تربية واللا تعليم- بفرض سيطرتها ليس فقط على ما يتم تدريسه لطلابنا للسيطرة على وعيهم بل أيضاً إعداد قوائم بأسماء المعلمين الوطنيين وإقالتهم من سلك التعليم وملاحقتهم سياسياً. وكذلك الطلاب الناشطين سواء في المدارس او الجامعات.
رغم هذا لم تنجح، ومقولة غولدا مئير إن "الآباء يموتون والأبناء ينسون" فشلت.. فما نسينا ولن ننسى..
وقد كان للمدارس الأهلية المُدارة من قبل مؤسسات دينية تبشيرية سابقاً دور مهم في مقاومة سياسات التجهيل وجاءت البيوت والعائلات الواعية لتكمل هذا الدور. فالتربية الوطنية لم نتعلمها في المدارس الحكومية بل رغما عنهم. أذكر أول درس في التاريخ والذي بدأت من خلاله يومها أنتبه لتاريخنا وللنكبة وكان في الصف الثاني ثانوي حيث كان مقرراً – وفق المنهاج الرسمي- أن ندرس ونمتحن عن تاريخ اليهود والذي يُشرِّع هجرتهم لفلسطين ويسوغها. ولا يتحدث هذا الكتاب عن شيء اسمه فلسطينيين ولا عن حق فلسطيني في البلاد. ومن هنا بدأت الأسئلة عندي. وكان مُدرسنا للتاريخ يبدأ الحصّة بـ "الهجرة اليهودية الأولى إلى" ويكمل "أما الفلسطينيون" وهكذا تعلمنا المقرر وامتحنا بامتحان الوزارة، وتخرجنا أيضا مع وعي في السياسية والتاريخ، إضافة إلى أن المدرسة كانت شكلت فرقة إنشاد – للأغاني الوطنيّة شاركت بها وأيضاً أقامت أول عُرس فلسطيني أخذنا نحن الطلاب دوراً فيه. وارتبطنا بتراثنا وتعلمنا عنه من خلاله.
خلال رحلة البحث عن الذات الفلسطينية بحثت أيضا عن المرأة الفلسطينية وأدوارها في التاريخ الفلسطيني، فلم أجدها حاضرة كما توقعت. وتركز بحث الماجستير في هذا الموضوع، بدأت بلقاءات مع نساء كبار في العمر ممن واكبن النكبة فتعلمت منهن عن أدوار النساء، وكانت أدواراً غير تقليدية لم تُدوَّن في كتب التاريخ العادية.
بدأتُ رحلة البحث عن المرأة ولم أكن أعرف إن كانت غائبة أم مغيّبة. وجدت بعض كتب المذكرات التي كتبتها حينها ناشطات في الحركة الوطنية الفلسطينية كأسماء طوبى مؤلفة كتاب "عبير ومجد" الذي أرَّخَت فيه في فصول عدة للعديد من النساء ونشاطهن والأطر النسائية. ووجدت كُتب مذكرات لنساء لبنانيات تزوجن فلسطينيين ونشطن ضمن الحركة النسائية الفلسطينية: عنبرة سلام-الخالدي ووديعة قدورة -خرطبيل ولاحقا كتاب بيان نويهض الحوت عن النساء العربيات في العشرينيات ويشمل فصلاً عن النساء الفلسطينيات. وجدت كتباً تتحدث عن التاريخ الفلسطيني وتذكر النساء ضمنها ومنها يوميات أكرم زعيتر – كتاب عن الحركة الوطنية الفلسطينية (1980). كانت بعض الأصوات النسائية غائبة فنساء النخبة دوَّن مذكراتهن من وجهة نظرهن وبطبيعة الحال وثَّقن تجاربهن وتجارب الأطر التي نشطن خلالها وهكذا غابت أو غُيِّبت دون قصد قصص نساء يتبعن لمجموعات وطبقات أخرى منهن الفلاحات وأيضا من أخذت دوراً في الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني بداية ولاحقاً الإسرائيلي.
قصص النساء القرويات والفلاحات كان بالإمكان نوعاً ما استكمالها من خلال التاريخ الشفوي ولقاء النساء أما قصص النساء اللاتي لعبن دوراً في الكفاح المسلح فكانت أشبه بالأسطورة. خلال البحث والتنقيب في كتب التاريخ وما كتب عن التاريخ الفلسطيني وجدت إسم فاطمة غزال يتكرر كأول شهيدة حملت سلاحاً واستشهدت بمعركة جلزون. لكن نساء أخريات ذكرت بغياب اسم صاحبتها وبقيت الأسماء نكرة فكتب: استشهدت، سجنت، اعتقلت... إمرأة- نساء. ووجدت في كثير من المواقع نساء المدن وثَّقن اجتماعاتهن بكتابة حرم فلان وابنة فلان – ببساطة اعتمدن ما كان متبعاً ودون قصد ساهمن في تغييب أسمائهن من الكتابة التاريخية.
كتابة عنبرة الخالدي حول أن والدها في فترة حكم الأتراك قام بحرق وثائق وكتابات ممكن أن تكون عامل إدانة في محاكم الأتراك ضدهم، جعلتني أفكر بأسلوب آخر بمعنى هل تم تغييب النساء عن قصد أم غُيَّبن لقصد حمايتهن أم دون قصد؟
في الحالة الأولى – في كتابات النساء أنفسهن لمحاضر جلساتهن رأيت أن التغييب جاء من عامل اجتماعي- التقيد بالعادات المتبعة بكتابة حرم وابنة فلان. في الحالة الثانية وجدت الجواب في قراءتي كتاب أكرم زعيتر الذي ذكر عدداً من الحالات التي اعتقلت فيها نساء واستشهدت أخريات وقد كان واضحاً أن السبب في عدم ذكر أسماء النساء الناشطات هو لحمايتهن من الاعتقال. إن عدم كتابة هذه التفاصيل المُهمة خلق وضعية غابت فيها أعمال النساء وأسماؤهن، فقد وجدت ثلاثة تنظيمات نسائية أو في قيادتها نساء التي لم أعثر إلا على القليل القليل عنهن في الكتابات التاريخية إضافة إلى مغالطات حول من أسس التنظيم وما هو دوره.
التنظيم الأول- "الكف الأسود" الذي نشط في منطقة القدس وبعثت النساء الناشطات فيه رسائل تهديد للشرطة وبعض من عضواته اعتقلن وتمت محاكمتهن في محاكم عسكرية (لدى عبد الهادي 1999) وسجنهن. واحدة من عضوات التنظيم كانت منيرة الخالدي أرسلت للسجن عام 1937 (فليشمان 2003).
التنظيم الثاني- "رفيقات القسام" اللاتي نشطن إلى جانب تنظيم رفاق القسام وتدرَّبن على يد القسام نفسه وكلمة تدرَّبن معناها تدرَّبن على حمل السلاح. وقد أكدت روز ماري صايغ في كتابتها عن كون العضوات هن من الطالبات (صايغ 1987) ومن غير الواضح إذا كان القصد طالبات مدرسة أم جامعيات. وتؤكد فليشمان، نقلا عن صايغ، على تصريح الشيخ القسام نفسه على أهمية مشاركة الطالبات والنساء واهتمامه بنفسه بتشكيل المجموعة في حيفا عام 1930.
كان التنظيم الثالث "زهرة الاقحوان" الذي نشط عام النكبة في منطقة يافا، ووجدت بعض الكتابات والكتب تتحدث عن كونه تنظيماً قدّم خدمات إسعاف أولي وأحيانا كُتباً، وأقيم على يد الأختين مهيبة وناريمان خورشيد وأحيانا لم ينسب لهن دور القيادة والتأسيس وإنما العضوية.
أثار هذا التنظيم فضولي ورغبتي بالتنقيب والبحث عنه، ووجدت طرف الخيط في كتاب د. فيحاء عبد الهادي والتي كانت أجرت مقابلة مع الأختين في القاهرة- مكان سكنهما بعد أن تركا فلسطين. كانت عندي أسئلة وشوق للقائهن، للتعرف بهن بنفسي. وكانت الفرصة عندما اقترحت صديقتي رنين جريس المهتمة بقضية التاريخ الشفوي السفر للقاهرة لتوثيق فيلم مع الأخت ناريمان حيث كانت مهيبة الأكبر سنا قد فارقت الحياة. وكان اللقاء عام 2008. وصلنا رنين وأنا محمّلات بالقهوة والزعتر والشوق والحب للقاء ناريمان. ناريمان كانت إمراة متقدمة في العمر وتلبس لباساً تقليدياً وتضع على رأسها منديلاً. تختلف صورتها تماما عن صورة المرأة التي تلبس زيّا عسكريّا قرب طائرة عسكريّة مصريّة. كانت المرة الأولى التي توافق فيها ناريمان على لقاء مُسجّل بالصوت والصورة كما أكدت بنفسها وكما أكّد ابنها الذي كان حاضراً في اللقاء. كان لقاء الأجيال، هي التي عاشت النكبة ولعبت دوراً نشطاً قيادياً، ونحن فلسطينيات الأراضي المحتلة عام 48، والتي كنا ما زلنا نعيش فيها ونبحث عن جذورنا كفلسطينيات وكنساء. نهتم بالتاريخ الفلسطيني ومن منظور نسوي ونبحث عن دور النساء. وكان هذا تاريخاً حاولت إسرائيل أن تمنعه عنا فبحثنا عنه في كتبنا ولما وجدناه غير كامل للأسباب التي ذكرتها سابقا، قررنا استكمال الناقص. لم نكن طليعيات فقد سبقنا لهذا العمل في التاريخ الشفوي الكثيرون والكثيرات. لكننا قدِمنا ليس كباحثات فقط ولم يكن أي تنظيم قد موّل سفرنا. فقد غطينا تكلفة السفر على حسابنا. رغبنا بلقاء المرأة التي أسست تنظيم كفاح وكان لها دور قيادي إلى جانب أختها. جئنا إليها كفلسطينيات.
كان اللقاء رائعاً ومؤثراً. تحدَّثَت وتحدَّثت وسألتنا عن أنفسنا وعن فلسطين. أعجبها الزعتر الفلسطيني ورائحة القهوة. مدّت أمامنا صوراً لها من مجلات قديمة ومقابلات أجريت معها في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات. كانت أوراقاً صفراء اللون. عرفنا منها أن التنظيم تأسس على يد أختها مهيبة ويدها بالأساس وكان تنظيما درَّب رجالا ونساء على الكفاح المسلح وكانوا يُغيرون على المستوطنات التي أقيمت بجانب يافا. إضافة لأنه قدّم خدمات إسعاف أوّلي عند الحاجة والتي كانت جزءاً من عمل التنظيم. وقد سافرت الأختان بعدها إلى القاهرة، تزوجتا هناك وأسستا عائلتيهما هناك.
كان اللقاء رائعاً.. لقاء الأجيال.. التقطت لي صديقتي رنين الصورة المُرفقة بالنص كانت تحدثني خلالها ناريمان عن تقدم العمر وكيف خط العمر علاماته على يدها. لا أذكر ما قلته لها حينها فلم نكن نسجل حينها وكان الحديث عفوياً. لكن لقاء الأيدي... لقاء الأجيال... لقاء امرأتين من جانبي الحدود ورغماً عن الحدود ومن جيلين مختلفين ورغم فارق الجيل... أعطاني الكثير من الحب والثقة والتحدي... تذكرت حينها جملة قالها شاعرنا الكبير سميح القاسم:
جيل يمضي وهو يهز الجيل القادم.. قاومت فقاوم.
رحلت ناريمان خورشيد في شباط 2015 لكن اسمها واسم تنظيم "زهرة الأقحوان" باق في قلوبنا وكجزء من تاريخنا... أبتسم اليوم رغم النكبة المستمرة .. أبتسم لأنّي أعرف أن مقولة ”الآباء يموتون والأبناء ينسون“ فشلت.. وها نحن البنات.. بنات الجيل الثاني والثالث للنكبة نتذكر ونبحث رغم موت الأمهات والجدّات...